“اتحاد طلبة سوريا”… نموذج لعبور الجسر
المصدر: العربي الجديد
بقلم: تمارا عبود، عضو مكتب الرصد والتفكير
في وطنٍ تتشابكُ فيه الأديان والطوائف والأعراق، قرّر البعض أن يتجاهلها بكلّ اختلافاتها، ويخلق غرفةً ضيّقة من مرايا زجاجية، لا يرى بها إلا نفسه من جهةٍ، ومن يرى بهم نفسه، فقط، من جهةٍ ثانية. بينما قرّر آخرون أن يبتكروا مساراً جديداً للتعامل معها، بهدف بناءِ وعيٍ وطني يعزّز إمكانية العمل المشترك، ويمتد من الداخل السوري حتى أبعد بقعةٍ لجأ إليها السوريون خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية.
هكذا وُلد “اتحاد طلبة سوريا” ليرسمَ مساراً جديداً وخطوةً طلابيةً شبابية في طريقِ صناعة الوحدة الوطنية. إلا أنّ رسم هذا المسار لن يكون سهلاً بعد سنواتٍ طويلةٍ، شكّلت بها الأيديولوجيات المختلفة، ساحةَ حربٍ وإقصاءٍ مُتبادلٍ للأفرادِ داخل كلّ مجتمع نخبويّ عربي، ولا سيما في سورية. وكذلك لن يكون سهلاً بالنسبة لسورية بالذات، بعد أن أسّس نظام الأسد فيها، كتلةً تعتنق الولاء للأسد الأب والابن، وترفعُ شعار “الأسد أو نحرق البلد”. وبعد أن حاول هذا النظام خلال السنوات الماضية شيطنةَ الثورة السورية، بوصفها فتنة طائفية تُهاجم الأقليّات وتسعى لإقصائها، مما ولّد خوّفا من الثورة ومآلاتها عند الأخيرين.
لذلك كان لا بدّ من تشكيلِ تجربةٍ ومساحةٍ وطنيّةٍ جديدة تبحث عن وطنٍ جامع لكلّ السوريين، بكلّ اختلافاتهم الدينية والطائفية والعرقية. مساحة يصفها الأمين العام لاتحاد طلبة سوريا، محمد السكري بأنّها “مساحة لا حديث فيها عن أكثرية وأقلية بل عن وطنٍ واحد وشعب موحد، فيه الأكثرية هم الوطنيون والأقلية هم الخائنون والمستبدون”.
لطالما أتتْ الحركات الطلابية برياحٍ لا تشتهيها سفن السياسيين، فغيّرت واقعاً، وأقالت مسؤولين وأشعلت الشارع في بلدانٍ وعواصم مختلفة. ولطالما كانت هذه النخبة الشبابية مصدر قلقٍ للحكومات المستبدّة عامة، ولنظام الأسد خاصة، فهناك الكثير والكثير مما قد ينتفضُ لأجله الطالب السوري؛ المناهج والبنية التعليمية والبطالة وحدّ الفقر ومستوى الحريّات… هناك سأم دائم يخيّم على الأجواء ويأخذ معه الشارع إن انتفض، فالطلبة هم نخبة المجتمع.
لذلك كان لا بدّ للنظام أن يحاصرَ الكتلة الطلابية ليحوّلها من كتلةٍ وطنيّةٍ طبيعيةٍ إلى أداةٍ ناعمةٍ ضمن أدواته، كما يصفها الباحث السوري، يمان زباد، إذ يصف تعامل النظام مع المنظماتِ الطلابيّة في دراسته “أدوات الأسد الناعمة”، قائلاً: “تُشكِّل المنظمات الطلابية بمستوياتها كافة، (ابتداءً من “طلائع البعث”، مروراً بـ”اتحاد شبيبة الثورة”، وانتهاءً بالاتحاد الوطني لطلبة سورية) مراكزَ إعداد للكوادر البعثية، التي تنتقل بعد إنهاء الدراسة، إمّا إلى قيادة النقابات أو إلى مناصب أخرى في الدولة، وعبر تلك المؤسسات المتتابعة تتم تهيئة الطلاب من جهة، والتأكد من ولائهم للسلطة الحاكمة من جهة أخرى”.
ورغم الفضاء المُغلق في سورية، إلا أنّ الطلبة السوريين، ولسنواتٍ طويلةٍ، لم يفقدوا قدرتهم على الاشتباكِ مع قضاياهم الوطنية العادلة، فكان قدرهم كقدر العنقاء حين تُولد من الرماد كلّ بضع سنوات بعد إحكام القبضة الأمنية عليهم في كلِّ ولادةٍ جديدة، إلّا أنّ الولادة الأخيرة تزامنت مع انطلاقِ الثورةِ السورية، وكان لزاماً على هذه التجربة الوليدة كأيّ تجربة وطنية أخرى أن تبني نموذجاً تتوّحد فيه طاقات الطلبة ويتفق عليه الجميع بكلّ انتماءاتهم الفكرية والعرقية والدينية والطائفية. وإلّا سنبقى ندور حتى نسقط جميعاً في أصقاعِ الأرض المختلفة بلا أيّ مشروع حقيقي يحكي حكايتنا جميعاً ويُطالب بحقّنا.
فمن يقبل الآن بعد ثلاثة عشر عاماً من النفي والغربة والتضحيات أن تقول له: “أنت مختلف عنا، لا مكان لك”. لا أحد.
أما في ما يخصّ الاتحاد المذكور، فقد تأسّس عام 2019 كمنظمةٍ نقابيةٍ طلابيّةٍ منتَخبةٍ، مستقلةٍ في قراراتها. وسعى الطلبة المؤسّسون منذ ذلك الوقت للتنسيق مع الطلبة السوريين حول العالم، للانضمام للكيان الطلابيّ النقابيّ الذي سيضمهم جميعاً.
وبعد مرور أربع سنوات على التأسيس، توسّعت رقعة الاتحاد الجغرافية بجهودِ أبناء وبنات هذه التجربة، لتضمّ أكثر من ثلاثين اتحادا طلابيا مُنتَخبا في خمسين جامعة في سورية وأوروبا وتركيا، ليصبحَ الكيان الذي كان فكرةً ناقشها مجموعة من الأصدقاء، جسراً وممثلّاً مشتركاً لأكثر من خمسة آلاف طالب سوريّ، وساعياً في رؤيته لتحقيق تطلّعاتهم لمستقبل سورية.
انتهج الاتحاد نهجاً تُشكِّل به الثورة السورية نقطةَ ارتكاز يلتف حولها الطلبة في نشاطاتهم وندواتهم، واعتمدَ خطاباً يحترمُ الاختلافات الدينية والعرقية والفكرية لجميع السوريين، وكان دقيقاً كذلك في احترام التنوّع الجندري، حيث يخاطب الذكور والإناث في جميع خطاباته الرسميّة.
كما حاضر ضمن مشروع منتدى الاتحاد، رموز ينتمون لتياراتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ مختلفة، مثل الشيخ سارية الرفاعي، والمفكر برهان غليون، والدكتور المنصف المرزوقي، والدكتور عبد الفتاح العويسي، وكان آخرهم الأستاذ جورج صبرا.
ولم يقتصر المفهوم الوطني الجامع على التواجد في مساحةِ الخطابات وضيوف الاتحاد فقط، بل تمكن ملاحظة ذلك من مراجعة البنية الإدارية الحالية، من حيث إنّه كان أوّل “نقابة” سورية تُساهم في إدارتها طالبة كرديّة ومن الداخل السوري.
في هذه التجربة يجلسُ الجميع في حضرةِ القضايا الوطنية والإنسانية حيث أوضح الاتحاد من خلال هذا النهج، أنّ هناك مساحة كبيرة لتعزيز الحوار والعمل المشترك، وأنّ ما يجمع أبناء القضايا العادلة أكثر بكثير مما يفرّقهم.
كلّ من ينتمي للثورة السورية يؤكّد أنّه لا يريد الرجوع إلى الوراء، حيث تركنا خلفنا تاريخاً مريراً من الديكتاتورية والصمت وصرخات معتقلين ومعتقلات لا تزال إلى اليوم تهزّ أرجاء البلاد، ما يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت، وسط صراعاتِ أبناء الوطن الواحد والثورة الواحدة، الرغبة وحدها كافية بالمضي إلى الأمام دون السعي لتجاوز كلّ صراعاتنا الداخلية؟
سؤالٌ ستُشكل الإجابة عنه مستقبل سورية.
للإطلاع على المادة الأصلية المنشورة في موقع العربي