الحراك الطلابي من أسوار الجامعات إلى صناعة المستقبل
راما الأمير – علوم سياسية
هذه المقال حائزة على المركز الأول في مسابقة باسل شحادة لمقالات الرأي
تُعتبر الحركات الطلابية في العقود الماضية بمثابة محركاً رئيسياً للتغييرات الاجتماعية والسياسية في عدة دول، حيث استطاع الطلاب الدفع تجاه تحقيق إصلاحات سياسية وإدارية ملموسة، شملت تراجع السلطات عن قرارات بسبب حراكهم أو مشاركتهم في كتابة دساتير بلادهم، أو حتى التعبير عن مواقفهم من القضايا الاقليمية المحيطة ببلدانهم، حيث بدأ نضالهم ضد الاحتلالات التي كانت على أراضي بلادهم الى اعتصاماتهم في ساحات المدن والجامعات في ظل وجود نظم استبدادية في بلادهم، فقد شهد التاريخ أنّ أكبر التغيرات كانت عن طريق هؤلاء الطلبة، ولكن يبقى السؤال بعد 2011 هل مازالت الحركات الطلابية قادرة على التغيير بعد العنف المٌفرط الذي واجهته خلال ربيعهم العربي؟
الحركات الطلابية.. صانعة النخب
تتميز فئة الطلاب عن فئات المجتمع كونها فئة “الجيل الجديد” الذي يفصل بين الماضي والمستقبل، والماضي والمستقبل هنا لا يشيران إلى فترات زمنية وحسب، بل يشملان سلوكيات وترسبات وأفكار قد تكون جيدة وإيجابية، ولكن في بلادنا يحمل الماضي ترسبات استبدادية عميقة وإرث ثقيل بالظلم والدماء والماضي المشوه وذلك بسبب طبيعة الأنظمة القائمة في المنطقة وتغييب الشعوب عن حقوقها وواجباتها تجاه وطنها، بينما يميل الطلاب بطبعهم إلى التجدد والتطور في المفاهيم والأفكار والتطلعات، وإلى الوصول لمساحة أكبر من الاستقلالية والحرية، مما جعلهم نواةً في التغيير من جهة ومدرسة تأهيل للنخب وتصدير القيادات بمختلف أنواعهم السياسية والاجتماعية والعسكرية وحتى الفنية والثقافية.
غالباً يحاول الساعون إلى السيطرة على المجتمع المدني بشكل عام والعمل الطلابي بشكل خاص إلى تحييد الطلاب والتقليل من أدوارهم وحصر أدوارهم في تعليمهم داخل أسوار الجامعة، فنجد أنّ الأنظمة الديكتاتورية تعمل على قمع الحركات الطلابية بشكل كامل ومعاقبة كل من يغرد خارج رأي النظام المستبد، أمّا الدول الشمولية فتجعل من العمل الطلابي أداةً لها لضبط المجتمع والتسويق لرواية الأنظمة المستبدة، بدوره يسعى المحتل إلى تغيير ثقافة الطلبة وفرض مفاهيمه وفهمه للحالة ليجعل الطلاب في البلاد المُحتلة منفصلين عن هويتهم وتاريخهم، وفي الحالات الثلاث تبرز قدرة الحركات الطلابية على خلق مساحاتها للنضال الاجتماعي والوطني، ومجابهة دوافع تشويه ثقافتهم وتاريخهم. في حين، تبرز قوة تلك الحركات من قدرتها على تنويع أدواتها من تنظيم مظاهرات واعتصامات حاشدة أو إضرابات عن الطعام، فضلاً عن استعدادهم لدفع فاتورة هذا النضال حيث واجه الطلاب حملات الاعتقال والعنف وذلك في سبيل دفاعهم عن قضاياهم الانسانية وحقوقهم الوطنية.
نضالات طلابية شهدها القرن الماضي
انتفاضات طلابية كانت بمثابة عقد ابتعاث وتجدّد شهدته عدة دول، كان لها تأثير كبير في تغيير الواقع السياسي محلياً وعالمياً، حيث تنوّعت بين مظاهرات رافضة للاحتلال ومظاهرات مناهضة لبعض التيارات السياسية أو حتى منددة بالحروب التي تشنها بلادهم ضد البلاد الأخرى. في ظل صمت مطبق اجتاح مصر عام 1919 وعجز النخب السياسية عن تحشيد المجتمع ضد الاحتلال البريطاني، كان الصوت الأعلى للطلاب في القاهرة، إذ خرج طلاب مدرسة الحقوق بمظاهرات حاشدة واجهتها قوات الاحتلال بالعنف، وكانت تلك المظاهرات شرارة انطلاق الحراك الشعبي الذي أفضى إلى خروج الاحتلال البريطاني من مصر عام 1934.
بدأ الطلاب في الولايات المتحدة بالاحتجاجات ضد حرب فيتنام عامي 1968 و1970؛ خلفت تلك الاحتجاجات حراكا نشطاً بالولايات المتحدة الأمريكية، وامتدت على مدى واسع حول العالم، كما وصلت أصوت الطلاب وتأثيرهم بالاحتجاجات من الجامعات الاميركية إلى ساحات الجامعات الأوروبية، وذلك مع خروج حشود من طلاب الجامعات في دول أوروبية مثل فرنسا وبولندا وألمانيا ضد السلطات الحاكمة. وكان من أبرز النتائج لتلك الاعتصامات انسحاب القوات من فيتنام عام 1973.
ما بين الماضي والحاضر.. دور الطلبة السوريون في كتابة تاريخهم
نظّمت الكتلة الوطنية في 1935 حفلاً وطنياً وذلك بهدف الإعلان عن (الميثاق الوطني)، الذي دعا إلى تحرير البلاد السورية من كل سلطة أجنبية، وإيصالها إلى الاستقلال التام، والسيادة الكاملة، وكان الطلاب أكثر الحضور إذ سبقوا السياسيين في حراكهم ودعموا هذا الميثاق وذلك بالتزامن مع بدأ الإضراب الستيني عام 1936 الذي حمل دعوات لكل الطلاب والأساتذة للمشاركة فيه، الذي استمر ستين يوما حتى قبول فرنسا بالتفاوض مع الكتلة الوطنية من أجل استقلال سوريا.
بعد استيلاء حزب البعث على الحكم عام 1963؛ كان أحد أهم أهدافه هو إعداد كوادر بعثية عبر احتكاره لأي عمل طلابي موازي له أو لمبادئه المستبدة وخدمة لسرديته، عاد الحراك الطلابي للظهور من جديد خلال فترة الربيع العربي في عام 2011، حيث شهدت الساحات تجمع الطلاب في مظاهرات سلمية في جامعة حلب وجامعة دمشق ورفعوا مطالباً بالحرية وإسقاط النظام.
حيث برز في الفترات الأولى من الحراك السلمي، إنشاء اتحاد طلبة سوريا الأحرار للتعبير عن رفض عدد من طلاب الجامعات سلوك النظام وكان لهذا الاتحاد دور مهم في تنظيم المظاهرات، لكنه لم يستمر طويلاً وذلك نتيجة القمع والاعتقالات العشوائية التي تعرّض لها الطلاب، بجانب القصف العشوائي الذي استهدف المدارس والجامعات والأبنية السكنية، وإغلاق بعض الجامعات وهروب عدد كبير من طلاب الجامعات من البلاد خوفاً على حياتهم بعد أن اجتاح جيش الأسد وميليشياته الجامعات واعتقال الطلاب واستشهد عدد كبير منهم تحت التعذيب.
وفي هذا السياق، لا بدّ لأجل توضيح واقع الحراك الطلابي السوري بين الماضي والحاضر، مقارنته في الفترات السابقة أثناء مرحلة استقلال سوريا وقبل وصل الأسد إلى الحكم بالوضع القائم منذ إقرار أول دستور شمولي في تاريخ سوريا مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث لم يكن في حقبة الاستقلال حكام يقمعون الشعوب بالقدر الذي نشهده حالياً، ولم يكن هناك أفرع أمنية تجعل من الجامعات مقبرة أو سجناً لكل طالب ينادي بالحرية، ولم يكن هناك صور قيصر يبحث بها أهالي الطلاب الذين خرجوا إلى جامعاتهم ولم يعودوا.
وقد ولّد هذا العنف إصرار كبير لدى الطلبة لتحقيق أحلامهم الفتية بالحصول على حرية سوريا، لكسر حاجز الخوف من نمطيّة صورة القائد الخالد والخوف من قوات الأمن، فلم يعد هذا الجيل يقبل بتوارث الاستبداد في ذهنه جراء حكم البعث الطويل الذي امتد لعقود؛ ولا سيما أنّ هؤلاء الطلبة أنفسهم استطاعوا إعادة توجيه بوصلتهم وبناء وتمكين أنفسهم بعد تهجيرهم القسري الى بلدان اخرى، واكتسابهم العديد من الخبرات في مجالات دراستهم وتعليمهم، وإتقانهم للغات مختلفة مما ساعد على توفير أدوات جديدة لتغير واقعهم جراء الانفتاح على الشعوب الأخرى والعالم.
ولعلّ انتشار الطلبة السوريين في بلدان العالم المختلفة يضفي لهم قيمة وإمكانية على التغيير من خلال إعادة تنظيم أنفسهم داخل الحركات الطلابية المتواجدة في دول اللجوء ليتمكنوا من تسليط الضوء على قضيتهم والبدء بالعمل على أرض الواقع لبناء سوريا الجديدة.
خاتمة وتوصيات
يقع على عاتق كل طالب سوري دور في المساهمة في زيادة الوعي تجاه القضية السورية، وحاجة المجتمع السوري للتغير نحو الأفضل؛ عبر دراسة تجارب التاريخ الاجتماعية والسياسية، والتعلم منها ومحاولة استنباط أو خلق حلول واقعية بعيداً عن تجاذبات الأحزاب والقوى التقليدية؛ حيث يشكّل الطلاب أكبر ثروة بشرية ورأسمال اجتماعي حامل لكل أطراف القضية السورية، لذلك على الصعيد الجمعي يجب عليهم تنظيم أنفسهم وأن يحملوا بوصلة وطنية ترفض أيّ محاولات لحرف الثورة السورية، أو التفريط بها. فضلاً عن الإيمان بدورهم الأهم لصناعة المستقبل؛ وذلك عبر البحث عن أهم نقاط العمل على أرض الواقع من أجل بلدهم مثل إعادة قراءة تاريخ بلادهم الذي شوهه الأسد بالمناهج. وأيضاً فهم الحاضر بشكل كامل وما حدث بعد 2011 والبدء الجدي بمحاولة وضع تصور لسوريا المستقبل الجديدة.كما من المهم القول إنّه من الصعب أن ترسم أي فئة مستقبل طلاب سوريا بمعزل عنهم أو عن طريق تجاهلهم كما فعلت الأنظمة المستبدة لأن نتيجة هذا التجاهل ستكون وخيمة، ومن المحال أن تُبنى البلاد أو تحرر الأوطان بوصفات جاهزة أو مشاريع لا تشبه المجتمع، لأنّ التاريخ يقول إنّ الحركات الطلابية تُفرز باقي حوامل المجتمع وتصدر النخب، مثل؛ محامين ومهندسين وأطباء وحرفيين ومهنيين، فإذا فسد أو شوه العمل الطلابي سيدمر المجتمع كاملاً، وإن نال وانتزع الحراك الطلابي حقه ومساحاته فستكون البلاد على الطريق الصحيح لنيل الحرية وبناء بلاد حرّة وديمقراطية.